كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهذه الحقيقة حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله وبين بديهية التوكل عليه لا تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلاً في مواجهة طاغوت الجاهلية؛ والتي تستشعرها في أعماقها يد الله سبحانه وهي تفتح لها كوى النور فتبصر الآفاق المشرقة وتستروح أنسام الإيمان والمعرفة، وتحس الأنس والقربى.
وحينئذ لا تحفل بما يتوعدها به طواغيت الأرض؛ ولا تملك أن تستجيب للإغراء ولا للتهديد؛ وهي تحتقر طواغيت الأرض وما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل. وماذا يخاف القلب الموصول بالله على هذا النحو؟ وماذا يخيفه من أولئك العبيد؟!
{وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا}..
{ولنصبرن على ما آذيتمونا}.
لنصبرن؛ لا نتزحزح ولا نضعف ولا نتراجع ولا نهن، ولا نتزعزع ولا نشك ولا نفرط ولا نحيد..
{وعلى الله فليتوكل المتوكلون}..
وهنا يسفر الطغيان عن وجهه. لا يجادل ولا يناقش ولا يفكر ولا يتعقل، لأنه يحس بهزيمته أمام انتصار العقيدة، فيسفر بالقوة المادية الغليظة التي لا يملك غيرها المتجبرون:
{وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}!
هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية.. إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها. فالإسلام لابد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية. لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم؛ ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي، وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل. وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه، فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى..
وعندما تسفر القوة الغاشمة عن وجهها الصلد لا يبقى مجال لدعوة، ولا يبقى مجال لحجة؛ ولا يسلم الله الرسل إلى الجاهلية..
إن التجمع الجاهلي بطبيعة تركيبه العضوي لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع. هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع ولحساب منهجه وتصوره.. لذلك يرفض الرسل الكرام أن يعودوا في ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها..
وهنا تتدخل القوة الكبرى فتضرب ضربتها المدمرة القاضية التي لا تقف لها قوة البشر المهازيل، وإن كانوا طغاة متجبرين:
{فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}.
ولا بد أن ندرك أن تدخل القوة الكبرى للفصل بين الرسل وقومهم إنما يكون دائماً بعد مفاصلة الرسل لقومهم.. بعد أن يرفض المسلمون أن يعودوا إلى ملة قومهم بعد إذ نجاهم الله منها.. وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبتجمعهم الإسلامي الخاص بقيادته الخاصة. وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد إلى أمتين مختلفتين عقيدة ومنهجاً وقيادة وتجمعاً.. عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة، ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين، ولتمكن للمؤمنين في الأرض، ولتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين.. ولا يكون هذا التدخل أبداً والمسلمون متميعون في المجتمع الجاهلي، عاملون من خلال أوضاعه وتشكيلاته، غير منفصلين عنه ولا متميزين بتجمع حركي مستقل وقيادة إسلامية مستقلة..
{فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين}..
نون العظمة ونون التوكيد.. كلتاهما ذات ظل وإيقاع في هذا الموقف الشديد. لنهلكن المتجبرين المهددين، المشركين الظالمين لأنفسهم وللحق وللرسول وللناس بهذا التهديد..
{ولنسكننكم الأرض من بعدهم}..
لا محاباة ولا جزافاً، إنما هي السنة الجارية العادلة:
{ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}..
ذلك الإسكان والاستخلاف لمن خاف مقامي، فلم يتطاول ولم يتعال ولم يستكبر ولم يتجبر. وخاف وعيد، فحسب حسابه، واتقى أسبابه، فلم يفسد في الأرض، ولم يظلم في الناس، فهو من ثم يستحق الاستخلاف، ويناله باستحقاق.
وهكذا تلتقي القوة الصغيرة الهزيلة قوة الطغاة الظالمين بالقوة الجبارة الطامة قوة الجبار المهيمن المتكبر فقد انتهت مهمة الرسل عند البلاغ المبين والمفاصلة التي تميز المؤمنين من المكذبين.
ووقف الطغاة المتجبرون بقوتهم الهزيلة الضئيلة في صف، ووقف الرسل الداعون المتواضعون ومعهم قوة الله سبحانه في صف. ودعا كلاهما بالنصر والفتح.. وكانت العاقبة كما يجب أن تكون:
{واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ}..
والمشهد هنا عجيب. إنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد. مشهد الخيبة في هذه الأرض. ولكنه يقف هذا الموقف، ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها، وهو يُسقى من الصديد السائل من الجسوم. يُسقاه بعنف فيتجرعه غصباً وكرهاً، ولا يكاد يسيغه، لقذارته ومرارته، والتعزز والتكره باديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات! ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت، ليستكمل عذابه. ومن ورائه عذاب غليظ..
إنه مشهد عجيب، يرسم الجبار الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروّع الفظيع. وتشترك كلمة {غليظ} في تفظيع المشهد، تنسيقاً له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين.
وفي ظل هذا المصير يجيء التعقيب مثلاً مصوراً في مشهد يضرب الذين كفروا؛ ولفتة إلى قدرة الله على أن يُذهب المكذبين ويأتي بخلق جديد.
ذلك قبل أن يتابع مشاهد الرواية في الساحة الأخرى، وقد أسدل الستار على فصلها الأخير في هذه الأرض، مخايلاً بالساحة الأخرى:
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد}..
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها، ولا الانتفاع به أصلاً. يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك، فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بدداً.
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار. فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله.. مفككة كالهباء والرماد، لا قوام لها ولا نظام. فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل. حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية.
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر. ويلتقي معهما التعقيب:
{ذلك هو الضلال البعيد}..
فهو تعقيب يتفق ظله مع ظل الرماد المتطاير في يوم عاصف.. إلى بعيد!!
ثم يلتقي مع مشهد الرماد المتطاير ظل آخر في الآية التالية، التي يلتفت فيها السياق من مصائر المكذبين السابقين إلى المكذبين من قريش، يهددهم بإذهابهم والإتيان بخلق جديد:
{ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}..
والانتقال من حديث الإيمان والكفر، ومن قضية الرسل والجاهلية إلى مشهد السماوات والأرض.. هو انتقال طبيعي في المنهج القرآني..
إن بين فطرة الكائن الإنساني وبين هذا الكون لغة سرية مفهومة!.. إن فطرته تتلاقى مباشرة مع السر الكامن وراء هذا الكون بمجرد الاتجاه إليه والتقاط إيقاعاته ودلالاته!
والذين يرون هذا الكون ثم لا تسمع فطرتهم هذه الإيقاعات وهذه الإيحاءات هم أفراد معطلو الفطرة. في كيانهم خلل تعطلت به أجهزة الاستقبال الفطرية. كما تصاب الحواس بالتعطل نتيجة لآفة تصيبها.. كما تصاب العين بالعمى، والأذن بالصمم، واللسان بالبكم!.. إنهم أجهزة تالفة لا تصلح للتلقي؛ ومن باب أولى لا تصلح للقيادة والزعامة!.. ومن هؤلاء كل أصحاب التفكير المادي الذي يسمونه المذاهب العلمية كذباً وافتراء.. إن العلم لا يتفق مع تعطل أجهزة الاستقبال الفطرية وفساد أجهزة الاتصال الإنسانية بالكون كله! إنهم الذين يسميهم القرآن بالعمْي.. وما يمكن أن تقام الحياة الإنسانية على مذهب أو رأي أو نظام يراه أعمى!!!
إن خلق السماوات والأرض بالحق يوحي بالقدرة كما يوحي بالثبات.
فالوحي ثابت مستقر حتى في جرسه اللفظي.. ذلك في مقابل الرماد المتطاير إلى بعيد. وفي مقابل الضلال البعيد.
وفي ضوء مصير المعاندين الجبارين في معركة الحق والباطل يجيء التهديد:
{إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد}..
والقادر على خلق السماوات والأرض، قادر على استخلاف جنس غير هذا الجنس في الأرض. واستخلاف قوم مكان قوم من أقوام هذا الجنس. وظل الذهاب بالقوم يتسق من بعيد مع ظل الرماد المتطاير الذاهب إلى الفناء.
{وما ذلك على الله بعزيز}..
وخلق السماوات والأرض شاهد. ومصارع المكذبين من قبل شاهدة. والرماد المتطاير شاهد من بعيد! ألا إنه الإعجاز في تنسيق المشاهد والصور والظلال في هذا القرآن!
ثم نرقى إلى أفق آخر من آفاق الإعجاز في التصوير والأداء والتنسيق. فلقد كنا منذ لحظة مع الجبارين المعاندين. ولقد خاب كل جبار عنيد. وكانت صورته في جهنم تخايل له من ورائه وهو بعد في الدنيا. فالآن نجدهم هناك، حيث يتابع السياق خطواته بالرواية الكبرى رواية البشرية ورسلها في المشهد الأخير. وهو مشهد من أعجب مشاهد القيامة وأحفلها بالحركة والانفعال والحوار بين الضعفاء والمستكبرين. وبين الشيطان والجميع:
{وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بِمُصْرِخِكم وما أنتم بِمُصْرِخِيّ إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم.}
{وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام}.
لقد انتقلت الرواية.. رواية الدعوة والدعاة، المكذبين والطغاة.. انتقلت من مسرح الدنيا إلى مسرح الآخرة:
{وبرزوا لله جميعاً}..
الطغاة المكذبون وأتباعهم من الضعفاء المستذلين. ومعهم الشيطان.. ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات.. برزوا {جميعاً} مكشوفين. وهم مكشوفون لله دائماً. ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون لا يحجبهم حجاب، ولا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق.. برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار، وبدأ الحوار:
{فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء}..
والضعفاء هم الضعفاء. هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه؛ وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة. ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله.
والضعف ليس عذراً، بل هو الجريمة؛ فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفاً، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله. وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعاً عن نصيبه في الحريه التي هي ميزته ومناط تكريمه أو أن ينزل كارهاً. والقوة المادية كائنة ما كانت لا تملك أن تستعبد إنساناً يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال!
من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة، وفي التفكير، وفي السلوك؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟ لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة. فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً.. كلا، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفاً يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان!
إن المستضعفين كثرة، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وماذا الذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان!
إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت. فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان!